في الحادي عشر من كانون الثاني (يناير) 1832 أبحرت السفينة الفرنسية "لا بيرل" (اللؤلؤة) من مرفأ تولون (جنوب شرق فرنسا) وعلى متنها بعثة موفدة من ملك فرنسا لوي فيليب إلى سلطان المغرب لطمأنته وحل عدد كبير من القضايا الشائكة التي نجمت عن احتلال فرنسا للجزائر في 1830، ولا سيما مسألة الحدود بين الجزائر والمغرب.
كان على رأس هذه البعثة السياسي القريب من الملك الكونت شارل ادغار دو مورنيه (1803-1878) وفي عدادها اوجين دولاكروا (1798-1863) اهم رسامي الحركة الرومانسية في فرنسا.
رست السفينة في 24 كانون الثاني (يناير) في طنجة. كتب دولاكروا "في الساعة التاسعة، ألقينا المرسى في طنجة. استمتعت بمظهر هذه المدينة الإفريقية. لكن الأمر أصبح مختلفا عندما وصل القنصل على متن زورق يرافقه حوالى عشرين وليا بلباس أسود وأصفر وأخضر اخذوا يتسلقون مثل القطط السفينة وتجرأوا على الاختلاط بنا. لم اكن قادرا على الكف عن مراقبتهم".
أقام الوفد الذي استقبله قنصل فرنسا جاك دوني ديلابورت (1777-1861) في "بيت فرنسا" مقر القنصلية الفرنسية في المدينة. وكانت تلك بداية مغامرة شكلت منعطفا حاسما في الحياة الفنية لدولاكروا.
في طنجة، وجد دولاكروا "في كل خطوة لوحات جاهزة يمكنها ان تصنع ثروة ومجد عشرين جيلا من الرسامين". ووجد في المغرب "مكانا صنع للرسامين (...) الجمال موجود فيه بوفرة، ليس الجمال الذي نفاخر به في اللوحات الرائجة بل شىء أبسط وأكثر عفوية وأقل تصنعا". أما أهل المغرب فهم "أقرب إلى الطبيعة بألف طريقة (...) والجمال يتوحد مع كل ما يفعلونه. أما نحن، ببزاتنا وأحذيتنا الضيقة ومشداتنا المضحكة، فنثير الشفقة"، كما كتب في دفاتره.
كان من حسن حظ دولاكروا أن الكونت دو مورنيه اضطر للموافقة على انضمام المترجم والدبلوماسي المغربي اليهودي ابراهام بنشيمول إلى البعثة لأن مترجم الملك أنطوان جيروم ديغرانج (1784-1864) الذي رافقه وجد صعوبة في فهم اللهجة المغربية. وكتب الكونت للملك مبررا ذلك أن "السلطان لا يسمح لأي مبعوث أوروبي بالتحدث إليه مباشرة ويشترط وجود مترجم يهودي".
أهم حدثين شهدهما دولاكروا في رحلته هما حفل زفاف يهودي ولقاء في العاصمة مكناس مع المولى عبد الرحمن (1789-1859) السلطان الرابع عشر في السلالة العلوية الذي حكم المغرب من 1822 الى 1859 وتزامن عهده مع بداية الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962). وقد دعم المقاومة الجزائرية التي قادها الأمير عبد القادر الجزائري (1808-1883) حينذاك.
كانت نتيجة مهمة البعثة أن الكونت دو مورنيه وجه رسالة الى رئيس اركان القوات الفرنسية في الجزائر تؤكد أن المغرب يتخلى عن أطماعه في منطقة تلمسان ووهران ويعد بالبقاء على الحياد وسحب قواته من الجزائر.
انتظرت البعثة 42 يوما لتحصل على موافقة السلطان على اللقاء. ففي رمضان لا يستقبل السلطان أحدا. وبعد ذلك توفي شقيقه المولى ميمون.
في الخامس من آذار (مارس)، غادر الوفد طنجة متوجها إلى مكناس بمواكبة جنود وكذلك في كل مرحلة باشا المنطقة التي تخضع لسلطته. سار موكب البعثة بهدوء في رحلة خط دولاكروا مراحلها في دفاتره ثم حول كل حدث ترك أثرا لديه إلى لوحة عندما عاد إلى فرنسا.
في مكناس، أقام الوفد في قصر للضيافة في قلب حي بريمة ثمانية أيام قبل لقاء السلطان وتسليمه الهدايا المرسلة إليه: ركاب مزركش للخيل واسلحة ثمينة مجوهرات اقمشة حرير وساعات...
ومن مكناس نقلت هدايا السلطان الى لوي فيليب: لبوة ونمر ونعامتان وثور بري وغزالان وأربعة خيول.
رسم دولاكروا 84 لوحة عن هذه الرحلة التي استمرت من نهاية كانون الثاني (يناير) الى تموز (يوليو) 1832 وكان لها أكبر الأثر على فنه.
دون دولاكروا ملاحظاته ورسومه التي تناولت الاشخاص والعمارة والطبيعة... في دفاتر صغيرة بفوضوية تعكس إعجابه وحماسه. وقد ترك صفحات بيضاء ورسم على دفتره مقلوبا.. رسم بينما كان يمشي أو على ظهر حصان كما يبدو من الخط المتعرج في بعض الصفحات، أو في الشوارع والحفلات. ودون ملاحظات.. وكان عندما يعود الى غرفته يلونها بالالوان المائية ويكتب انطباعاته وأحيانا يراجع ما خطه ليضيف إليه أسماء ومواقع..
بقي دولاكروا طوال حياته حريصا على هذه المفكرات التي بلغ عددها سبع لكن لم يبق منها سوى أربع - ثلاث منها موجودة حاليا في متحف اللوفر وواحدة في متحف كوندي في شانتي في فرنسا - وحوالى 800 ورقة.
ذكرياته عن المغرب لم تغب يوما عن ذهنه وطبعت معظم اعماله حتى الجداريات التي رسمها بقصر بوربون ومكتبة قصر لوكسبورغ.
وقد كتب "كل ما يمكنني ان افعله سيكون القليل مما يجب أن أفعله".
خلال رحلته، علم دولاكروا أن باريس تشهد اضطرابات، فكتب "انتم تتقاتلون وتتناحرون مجانين مثيرون للسخرية! اذهبوا الى ارض البربر لتتعلموا الصبر والفلسفة".